١٨‏/٣‏/٢٠٠٧

كي لا يذبح المتنبي مرتين





نقل لي من مصدر مشهود له بالمصداقية ان الانفجار الذي استهدف شارع المتنبي ، حدث في المنطقة المعروفة ببيع وتداول الكتب التنويرية ، خصوصا كتب التنوير الديني ، اذا صح الاصطلاح ، وكان ابرز ضحايا هذا الاستهداف مركز دراسات فلسفة الدين الذي يملكه الباحث الاسلامي الكبير عبد الجبار الرفاعي ، والذي كانت سلسلة اصدارات حول ((ثقافة التسامح)) هي واجهة انطلاقه في بغداد ، وكانت التفاتة مبكرة في الايام الاولى لما بعد سقوط النظام السابق ، من الدكتور الرفاعي الى موطن الجرح العراقي النازف .
كما كان من ابرز ضحاياه ايضا ، الكتبي عدنان الجادري، الذي كانت مكتبته، مكتبة عدنان، تحوي على ارففها احدث واثمن الكتب التنويرية الصادرة في الدول العربية.

ربما يحتاج العراقي الان الى ان يعيد طرح الاسئلة حول مسلماته الفكرية والعقيدية ،هذه المسلمات التي قادته وتقوده الى المازق التاريخية التي مر بها ويمر بها الان ، وبالتالي اعادة صياغة لمقارباته للحياة والموت وما يشكلهما من تصورات واعتقادات ورؤى.
عند هذه المرحلة المهمة في حياة العراقي ، كما هو مطروح حسب الجغرافيا السياسية والتاريخية التي كونت هويته الحديثة، يقف العراقي الانسان على مفترق طريق ، يواجه احد مسارين اما الذهاب الى اقصى الانفعال بالتجربة العنيفة التي مر ويمر بها فلا ينتج سوى ردود افعال متشنجة واوهاما جديدة عن الذات والاخر . او مراجعة الذات والتجربة والانفتاح على النقد واعادة قراءة المسلمات جميعها بادوات علمية حديثة غير متخلصة بالضرورة من الرؤى المتشكلة /اجبارا/ عن العالم والكون لدى العراقي تبعا لتجربته التاريخية الخاصة به باعتباره ابنا لهذا البقعة الجغرافية بما تحمل من مدلولات

ولذلك يحتاج العراقي مثلا ، قبل ان يستورد نظم ادارة دولة من تجارب الاخرين ، ان يتعرف الى نفسه ويكشفها عارية ، بكل تناقضاتها وعيوبها ومحاسنها ، كي يبلور تصورا اقرب الى الموضوعية عن احتياجاته وما يلائمه ، بتفرده ، لينعم بهبة الحياة على ارضه كما يجب
لا شك ان فجيعة شارع المتنبي ، الذي يقول البعض ان جدرانه تحمل على غبارها اصداء الام ومكابدات واشواق واحلام واحزان وافراح اجيال من مثقفي وشعراء وادباء وفناني العراق الحديث ، قد المت الجميع وعكست ربما اقبح وفي نفس الوقت اجلى الصور عن طبيعة الحرب التي تخاض ضد العراق الجديد ، لكنها ربما لم تمر دون دلالات اخرى غابت وسط الفجيعة والحزن والالم الصارخ: فلقد كان شارع المتنبي شاهدا ايضا على عقود من التدجين الفكري للعراق ، وعلى عقود من الجرائم بحق صناع مجده وتشريدهم في اصقاع الدنيا ، وعلى اسواق الدجل الثقافي الذي طبع زمنا طويلا من عمر الدولة العراقية الحديثة
لم يكن شارع المتنبي - بالتاكيد – يحتاج الى الذبح كي يتطهر من ادران الجاهلية ، لكن دوي الانفجار الذي هز مضاجعه حري به ان يعيد طرح الاسئلة على الفكر والادب والشعر والفن العراقي ، قبل ان ندخل في غيبوبة جديدة تفرضها هذه المرة هواجس الخوف من القادم والانكفاء على الضيق من انتماءاتنا
هاجر القحطاني

٢٠‏/٢‏/٢٠٠٧

انعطافة اليائسين



يبدو ان الحرب على العراق الجديد ، اخذت منحى جديدا مؤخرا ، بعد المشهد ، الفاقع ، الذي بثته احدى الفضائيات العربية عن حديث امراة ، زعمت انها كانت ضحية عملية اغتصاب من قبل رجال امن عراقيين .وبعد الانباء عن تفجير شاحنة محملة بمواد سامة صباح الثلاثاء في منطقة التاجي.

اذا عدنا الى القصة الاولى ، يمكن ان نتوقف ، كمراقبين محايدين ، عند عدة نقاط منها
عادة ما تمر ضحية الاغتصاب بفترة انهيار نفسي او على اقل تقدير ازمة نفسية شديدة ، بعد التعرض للاعتداء ، الامر الذي يمنعها ، او يصعب عليها كثيرا الحديث عن التجربة التي مرت بها . الملاحظ ان الضحية المشار اليها ، كانت تتكلم بشكل طبيعي ، واقرب الى الحياد وهي تصف وصفا دقيقا ما جرى لها ، كما لو انها على سبيل المثال طبيبة تشرح حالة لطلابها.
تركيز الضحية المزعومة (مزعومة لان فحوصا طبية اجريت لها اكدت عدم تعرضها للاغتصاب ) على تفاصيل تحمل دلالات سياسية مقصودة مثل الوصف الدقيق المركز لملابس الجنود ، الوصف المعبا والذي لا يمكن ان تخطيء دلالته اي مراقبة محايدة.
اثير تساؤل واستغراب عند كثيرين حول الغاية من التركيز على هذه القصة ، وترويجها عبر الاعلام العربي ، وليس المحلي مثلا ، قبل او حتى دون ، اللجوء الى القضاء او الى السلطات المختصة ، لا سيما ان الضحية مواطنة تعرضت للاعتداء من قبل جنود ينتمون لبلدها وبامكانها محاسبتهم عبر الطرق القانونية ، وليست ضحية اعتداء من قبل جنود غزاة مثلا ، كي تتحول القصة الى حدث ذي طابع سياسي دولي ، انما يمكن تصنيفه ضمن التجاوزات او الجرائم التي ترتكب من قبل مجندين لا يلتزمون بالاوامر ، ويجب اخضاعهم للمحاكمة وتعريضهم للعقوبة التي يستحقون.

اما الحدث الثاني الاشد مرارة والابلغ دلالة ، ان تم التثبت منه ، فهو لجوء الاعداء الى الاسلحة المحرمة في سبيل احداث ابلغ الاثر ليس فقط بالانسان المستهدف منذ البداية بل حتى بالفضاء والتربة والمكان ، ولهذا الحدث ايضا دلالاته التي منها
يتشابه هذا الاسلوب الى حد التطابق مع الاسلوب البعثي الصدامي الذي كان يلجا الى اي سلاح متوفر للقضاء على خصومه ، بغض النظر عن كل الاعراف والمواثيق والحدود الانسانية والشرعية والاخلاقية وحتى الفطرية
.
الذي قام بهذا العمل الاجرامي لا يمكن ان تكون لديه قضية عادلة يناضل من اجلها ، انه قاتل ومجرم ومفسد في الارض ، واستنادا الى كل الانظمة الوضعية والسماوية التي عرفها الانسان ، لا يجابه مرتكب هذا الفعل الا بشن الحرب عليه بلا هوادة ولا رحمة ، لانه كالسرطان لا يمكن ولا يجوز التعايش معه ولابد من استئصاله بلا تردد

الى الان لا يزال العرب يعانون من الصمم والعمى والخرس امام هذه الجرائم التي ترتكب بحق حاضر العراق ومستقبله وانسانه، ولو حدث عشر ما يحدث على يد القوات الاجنبية مثلا في العراق او غيره ، لقامت الدنيا ولم تقعد ، لان الغاية من الادانة ليس الاعتراض على استهداف الانسان ، الاكرم بين المخلوقات ، بل تسجيل نقاط في معارك سياسية ، بلهاء وقصيرة النظر يخوضها العالم العربي الراكد مع اي تيار جديد للهواء يكشف تعفنه.

قضية المراة ضحية الاغتصاب المزعوم تذكرني بالتقارير المرعبة التي تتناقلها وسائل الاعلام عن العراقيات ، اللواتي اضطرتهن ظروف البلد الامنية وغيرها ، الى الوقوع فريسة بيد تجار الرقيق الابيض دون ان يخدش هذا الامر حياء اي مناد بكرامة العراق ، من الذين يجرون البلد بعنفهم الاعمى الى مزيد من الدمار والخراب ، ويقطعون الطريق ، امام اي نوايا وجهود للخروج من نفق الحروب العبثية التي يخسر فيها الجميع
هاجر القحطاني

١٢‏/٢‏/٢٠٠٧

فجيعة مقتل شاب


مثل بتر شجرة خضراء في اوج تفتح ازهارها واقبالها على الاثمار ، مثل فقا عين مبصرة مليئة بنور الحياة ، يفجعني نبا مقتل شاب معافى ، حيوي ومفعم بالاحلام والامال وحرارة الاشواق ودفء العواطف. يقذفني في فراغ العبث والعدمية .عبثية ان تفرع قامة الانسان مشرئبة نحو قمة الحياة ، كي تحصدها فاس غادرة على حين غرة..
كل شيء ، احلامه .. افكاره .. ، احاديثه الخاصة واحاديثه العامة ،ضحكاته الجميلة وابتساماته المشرقة ، اهتماماته البسيطة وطموحاته الكبيرة، اتزانه وهو يجد في عمله ، جنونه وهو يعود الى العراق من ملجا امن في اوروبا ، كل ما يشبه الاخرين فيه وكل ما يختلف فيه عن غيره من شباب العالم الاخر الذين يمتدون باحلامهم على اتساع الدنيا وعلى اتساع الكون دون رادع او حاجز ، رحل معه ..
حين اعترضت طريق اقباله على بهجة الحياة بقسوة لا مثيل لها كل وحشية الزمان لتطفىء في لحظة شمعة متوهجة اسمها الشاب حسنين
لم يكن لحسنين من ذنب سوى انه احب ان يعود الى بلده كي يعيش عزيزا دون ذل الغربة
لم تكن لحسنين حاجة في بلده سوى حاجة الابن الغريب الى عز التواجد بين اهله
واهله لم يحموه
اهله لا يحمون احدا ، منشغل بعضهم بالندب والاحزان
وبعضهم بالبغضاء والعداوات
والجهل والعاهات
وبعضهم برتق فتق اتسع الى ما يعلم الله
اهله قتل بين ظهرانيهم الكثير من اولادهم وبناتهم
ديست على مراى اعينهم ازهارهم المطلة على الحياة ، تبشرهم باجمل ما في القادم من الايام
مثل حسنين ، ، يخسر العراق كل يوم العشرات من شبابه الذكور والاناث ، تنطفىء مع مقتل كل واحد منهم حياة كاملة محملة مثل غيوم الخير بكل الوعود
وتغادر الى الابد سماءنا العطشى لقطرة ماء
تموت وعودنا الجميلة بمستقبل مشرق مثل ابتسامة حسنين ، لان الشجعان قليلون في هذا الزمن العراقي واصواتهم لا تعلو على اصوات الرصاص الذي زرعته عصابة الحكم البائد في كل شبر من ارض العراق ، مع بذور الكراهية العمياء التي سيجت حكمها بالدم
حسنين ، واقرانه الشهداء من شباب الوطن ، اجمل ما يستطيع العراق ان يقدمه كي تكف عنه الشرور ، كي يحمي مصيره
يقدمهم للموت فداء وبدمائهم يحصن احلام من بقوا
اما الشهداء فهم في عليين عند رب كتب على نفسه الرحمة
حسنين احد زملائنا الشباب استشهد مع زميل له على يد ارهابيين يستهدفون كل ما يمكن ان يؤشر على عودة الحياة الى هذا البلد لانهم ورثة الموت
هاجر القحطاني

٣١‏/١‏/٢٠٠٧

عند الحلاقة في المنطقة الخضراء


قبل يومين كنت اجلس عند الحلاقة النسائية في المجمع السكني الذي اقطنه داخل المنطقة الخضراء، منتظرة دوري مع عدد من النسوة ، احداهن كانت سيدة شابة في الثلاثينات من العمر تتكلم بلهجة اقرب الى اللهجات العربية المحيطة ، سالتها الحلاقة : هل انت من البصرة ؟
كان الحديث قبلها يدور مع باقي النساء عن ايام عاشوراء وحق الانسان في الاحتفال بطقوسه بالطريقة التي يريد.
بحذر شديد ، تدرب عليه المواطن العراقي العادي ، اقتربت المتحاورات من موضوع الفرز الطائفي في البلد الذي لم يكن ملحوظا في السابق ، وجرى دفاع عام عن الشيعة ، بافتراض ان اغلبية الحاضرات لابد ان يكن من الشيعة ، وربما بالتحديد من الجنوب على اعتبار ان الحكومة بيد الشيعة..
وهذا ما كان اقرب الى ذهن الحلاقة حين لفتت سمعها لهجة السيدة الشابة ، بالنسبة لي كانت اقرب الى بادية الشام منذ البداية وصدق حدسي، اجابت المراة: بل انا من عرب الموصل.
بسرعة انتقلت عيني الى وجه الحلاقة ، وساد صمت في المكان. لابد ان الحلاقة التي كانت تعمل في هذا المجمع منذ عهد النظام السابق ، ، فوجئت بعودة من ينتمي الى شريحة حكام الماضي.
الحلاقة بسيطة التعليم وهشة الخلفية الاجتماعية ، والمرعوبة من اي شيء ينتمي الى الحكومة ، اربكها هذا التناقض .. بين ان تكون الغلبة المتوقعة ، في مجمع يسكنه موظفو رئاسة الوزراء واعضاء مجلس النواب للشيعة ، ثم يخترق هذا الشكل المتجانس ظاهريا على الاقل ، جسم مختلف ، ينتمي ، حسب ادراكها ، الى العهد البائد.
ولذلك ارتبكت الحلاقة وكفت عن تبادل الحديث مع المراة ومع الجميع ، حتى انهت عملها وخرجت الموصلية ، ترتدي عباءة وبرقعا مثل النساء في الخليج. وبحركة لاشعورية القت الحلاقة نظرة على وجهي بحثا ، ربما عن ردة فعل تتوقعها هي عند امثالي ، وواضح لها انني انتمي الى العهد الجديد .. ابتسمت لها ابتسامة مشجعة على هضم الامر واكتفيت بذلك.
ليس سهلا ان اشرح لها ان هذه السيدة تمثل شريحة ليست صغيرة في العهد الجديد ، المشاركون من العرب السنة في العملية السياسية ، بتنوعهم الكبير ، اكبر بكثير من المحجمين عن ذلك . وهذا ربما ما يجب ان يهضمه الكل وليس المراة الحلاقة التي يربكها التنوع واحتمال حضور الاخر بكل تميزه وبوضوح اختلافه داخل النسيج الغالب.

افرحني دائما تنوع العراق ، ورايته حاضرا دائما داخل عائلتي وبين اصدقائي ، في غربتي خصوصا ، والان يريدون له ان يكون وحشا يشوهون به احلامنا في وطن كريم!
واظل اسال نفسي من هم هؤلاء الذين يزرعون بذور الريبة بين بيوتنا المتجاورة وفي نفوسنا المتحابة. لا اعرف لهم اسما لكنني ارى ظلالهم تتحرك في كل مكان في العراق ، ظلال الاستقطاب الطائفي الحاد، واستعادة الماضي البعيد المشحون بالحروب والعداوات دون ان يكون له منطق ينتمي الى الحاضر ، لمجرد ان هذا الارث من التشاحن يرفع بالبعض الى مكاسب السلطة وغنائمها .

خرجت من عند الحلاقة وتناهى الى سمعي حديث بين اثنين باللغة الكردية ،، ابتسمت مثل طفلة واكملت طريقي داخل المنطقة الخضراء

هاجر القحطاني